تحرير: اسماعيل الغالبيفي صيف العام 1992، اهتز الشارع العراقي على وقع حادثة مروعة لا تزال محفورة في الذاكرة الجمعية حتى اليوم، عندما أقدم نظام الطاغية صدام على إعدام مجموعة كبيرة من كبار التجار العراقيين في العاصمة بغداد وعدد من المحافظات، بتهمة كيدية تتعلق بالاحتكار والتلاعب بالأسعار.
الواقعة التي عُرفت لاحقاً باسم "مجزرة التجار"، كانت جزءاً من حملة سياسية وإعلامية هدفت إلى تحميل القطاع الخاص مسؤولية الانهيار الاقتصادي الناتج عن الحصار الدولي المفروض على العراق بعد غزوه الكويت العام 1990.
الحصار والاختناق الاقتصاد يبعد أن فُرض الحصار الاقتصادي الشامل على العراق من قبل مجلس الأمن الدولي بموجب القرار 661، والذي تضمن منع تصدير النفط واستيراد السلع، ما أدى إلى انهيار شبه كامل في البنية الاقتصادية، وفي تلك الفترة، كان التجار هم الجهة الوحيدة القادرة على توفير المواد الغذائية والسلع الأساسية عبر منافذ متعددة بعيداً عن الرقابة الدولية، فارتفعت الأسعار نتيجة المخاطر العالية وتكاليف النقل، لكن النظام المباد اعتبر ذلك استغلالاً وجشعاً، وأطلق خطاباً عدائياً ضد التجار.
الرعب الاقتصاديوفي منتصف العام 1992، صدرت أوامر من السلطة البعثية بتشكيل لجان خاصة لمراقبة الأسعار في الأسواق، بإشراف مباشر من المجرم علي حسن المجيد، وبتنسيق مع جهاز الأمن الخاص والمخابرات العامة، وخلال أسابيع، تم اعتقال عشرات التجار من أسواق الشورجة والكرادة وبغداد الجديدة والفضل، بالإضافة إلى آخرين من الموصل والبصرة.
لم يُعلن عن الأسماء فوراً، لكن بعد أيام، بثّ التلفزيون الرسمي تقريراً مصوراً يُظهر اعترافات قسرية لتجار مكبّلين يعترفون برفع الأسعار، ثم أُعلن تنفيذ حكم الإعدام بهم في بيان مقتضب.
تفاصيل الإعداماتفي صباح يوم 26 تموز 1992، نُفّذت الإعدامات في سجن أبو غريب وساحة خلفية تابعة لجهاز الأمن الخاص، وبلغ عدد الذين أُعدموا بين 32 إلى 42 تاجراً وفقاً لمصادر مختلفة، جميعهم من كبار تجار الذهب والغذاء، وأُجبر ذوو الضحايا على تسلّم الجثث بشرط عدم إقامة مراسيم عزاء علنية، كما فُرض عليهم التوقيع على تعهد بعدم الحديث عن تفاصيل ما جرى.
ردود الفعل والتداعيات أحدثت الإعدامات حالة من الصدمة والخوف الشديد في الأوساط الاقتصادية، إذ توقف الكثير من التجار عن العمل، وأغلق البعض متاجره، وفرّ آخرون إلى دول مجاورة، وتراجعت حركة السوق بشكل غير مسبوق، ما عمّق الأزمة الاقتصادية أكثر، وفي المقابل، لاقت الحادثة تنديداً دولياً محدوداً بسبب انشغال المجتمع الدولي حينها بملف الأسلحة العراقية وحظر النفط، لكن منظمات مثل العفو الدولية (Amnesty International) وهيومن رايتس ووتش أصدرتا بيانات لاحقة وصفتا فيها الإعدامات بأنها "جريمة خارج نطاق القانون".
وبعد سقوط النظام المباد العام 2003، ظهرت أدلة جديدة تتعلق بتلك الحادثة الأليمة منها اعترافات المجرم حسين كامل صهر صدام الذي ذكر في جلسة تحقيق تعود الى العام 1995 أن الحملة ضد التجار كانت خطأ فادحاً، نفّذها المجرم علي حسن المجيد بتوجيه مباشر من الطاغية صدام.
الذاكرة الشعبيةولا تزال العائلات البغدادية تتداول قصص تلك الحادثة، خصوصاً في أسواق الشورجة وجميلة والكرادة، حيث كان الضحايا معروفين بتجارتهم وسمعتهم الطيبة، والكثير من الناس يتذكرون كيف عرضت لقطات سريعة من وجوه التجار المحكومين في نشرات الأخبار، مع عبارات مثل (نماذج من الجشعين الذين أرادوا تجويع أبناء العراق)، وكانت تلك المشاهد بمثابة رسالة ترهيب لكل من يفكر في الخروج عن سياسات النظام الاقتصادية أو احتكار أي سلعة.
إنصاف الضحاياوفي هذا الصدد، أكد رئيس لجنة حقوق الإنسان النيابية أرشد الصالحي لوكالة الأنباء العراقية أنه لم تتم مناقشة حادثة إعدام التجار عام 1992 بشكل تفصيلي داخل البرلمان حتى الآن، ولدينا ملفات عديدة مشابهة"، مضيفاً، أنه "نؤمن بضرورة إعادة فتح كل الملفات التي تخص الضحايا، ومن بينها هذا الملف، وقد تكون هناك خطوات مستقبلية لتشكيل لجنة تحقيق لجمع الوثائق والشهادات بما يضمن توثيقاً دقيقاً للحادثة".
وأشار إلى أن "المواد القانونية الخاصة بالجرائم السياسية تندرج ضمن قانون مؤسسة الشهداء، أما الجرائم التي تمس اقتصاد الدولة فهي لا تعد جرائم سياسية، ولهذا تم استبعاد هذه القضية من اعتبارها ضمن ملفات الشهداء السياسيين في قانون مؤسسة السجناء السياسيين، لكن ذلك لا يلغي أن الجريمة كانت ذات طابع قمعي وسياسي واضح".
الأثر الاقتصادي بدوره، أكد مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية مظهر محمد صالح، لوكالة الأنباء العراقية أن حادثة إعدام التجار العراقيين العام 1992 تمثل (وصمة عار) في سجل العلاقة بين الدولة والسوق آنذاك"، مشيراً إلى أن "السياسات القمعية التي مورست آنذاك خلّفت آثاراً طويلة على الاقتصاد الوطني وهروب رؤوس الأموال".
وأضاف: "تنظر الحكومة الحالية إلى تلك الإعدامات وغيرها من سياسات الردع القسرية في التسعينيات بوصفها نقطة سوداء في تاريخ الاقتصاد العراقي، إذ أسهمت في تقويض الثقة بين الدولة والقطاع التجاري وجعلت السوق يعيش توتراً ممتداً لسنوات طويلة".
وبين صالح أن "تلك الإعدامات كانت رسالة رعب واضحة، إذ شعر المستثمرون بأن الربح والملكية قد يكونان عرضة للقمع السياسي والعقوبات الجسدية والمصادرة، وهذا دفع شريحة واسعة من التجار إلى نقل رؤوس أموالهم للخارج وتجميد الاستثمارات الجديدة وتعطل سلاسل التوريد، ما أضعف القطاع الخاص وأضر بالاقتصاد ككل".
إعادة بناء الثقةوحول الخطوات الحكومية التي اتخذتها الحكومة لإعادة ثقة التجار لدى الدولة أكمل صالح أن "الحكومة اليوم تتبنى سياسة شراكة واضحة مع السوق من خلال الاستراتيجية الوطنية لتطوير القطاع الخاص، وتم إطلاق مجلس دائم للتشاور مع رجال الأعمال، إلى جانب إصلاحات تشريعية وإدارية واسعة تستهدف إزالة العوائق البيروقراطية وتهيئة بيئة استثمار آمنة قائمة على نظام السوق الاجتماعي"، مشيراً إلى أن "إعادة الاعتبار لتلك العوائل واجب أخلاقي ووطني، سواء عبر التكريم الرمزي أو بإجراءات مؤسساتية تنصف الضحايا الذين دفعوا ثمن سياسات اقتصادية قمعية، هذا الملف يحتاج إلى معالجات ضمن رؤية شاملة للعدالة الاقتصادية".
درس اقتصاديوأردف صالح أن "ما حدث يجب أن يكون درساً يحصّن الاقتصاد من تدخل السياسة القهرية في الأسواق، فاقتصاد بلا ثقة لا يبني دولة، والقطاع الخاص لا يزدهر دون حماية الحقوق والحريات الاقتصادية"، مشدداً على أن "القطاع الخاص هو شريك استراتيجي في التنمية وليس خصماً للدولة كما كان يعامل سابقاً، والتزامنا كامل بحماية الإنتاج والتجارة والربح المشروع، وبناء مؤسسات اقتصادية عادلة تعود بالنفع على المواطن والبلد معاً، وبناء دولة المؤسسات يشمل تقوية القطاع الخاص، كي يتحول الدخل الوطني إلى فرص تنموية حقيقية للجميع".
المصدر: وكالة الأنباء العراقية