تواجه البصرة عاصمة العراق الاقتصادية، ومنفذه البحري الرئيسي المطل على الخليج العربي، خطرا بيئيا يتمثل في ارتفاع اللسان الملحي في مياه شط العرب إلى مستويات غير مسبوقة، متجاوزة بذلك المواصفات المسموح بها لمياه الاستخدام أو مياه الشرب، فضلا عن معاناة مواطنيها من ارتفاع درجات الحرارة التي تبلغ أحيانا 51 إلى 53 درجة مئوية، مصحوبة برطوبة عالية، مع تذبذب في التيار الكهربائي.
وفي إطار تدارك الأزمة، أعربت لجنة الزراعة والمياه النيابية، اليوم الأربعاء، عن قلقها البالغ من تصاعد مستويات اللسان الملحي في محافظة البصرة، محذرة من أزمة مائية خطيرة تُهدد محافظات الجنوب والفرات الأوسط، كاشفة في الوقت ذاته عن مسارين لمعالجة الأزمة.
وقال عضو اللجنة، النائب ثائر الجبوري، في تصريح ، إن “العراق يمرّ بأخطر أزمة مائية منذ عقود، مع تدنٍ غير مسبوق في كميات المياه وتراجع حاد في الإطلاقات المائية”، مشيرا إلى أن “تصاعد اللسان الملحي في مياه شط العرب يمثل مؤشرا خطيرا على تفاقم أزمة الجفاف، ويُنذر بكارثة بيئية وإنسانية وشيكة في البصرة”.وأوضح الجبوري، أن “الخزين المائي في السدود الرئيسة وصل إلى مستويات حرجة، ما دفع وزارة الموارد المائية إلى إعلان عدم قدرتها على تأمين مياه كافية لزراعة محصول الشلب في مناطق الفرات الأوسط”.
وأكد أن “المرحلة المقبلة تتطلب تحركا عاجلا على مسارين، الأول: الضغط السياسي والدبلوماسي على دول الجوار لضمان الحصص المائية العادلة، والثاني: العمل على تطوير مشاريع تحلية المياه وبناء منظومات إدارة متكاملة للموارد المائية”.
ويشهد شط العرب في الفترة الأخيرة، ارتفاعا ملحوظا في نسبة الملوحة، ما ينذر بأزمة مائية تؤثر على تجهيز المياه الصالحة للشرب، إلى جانب الأضرار الكبيرة التي تلحق بالأراضي الزراعية، والثروة الحيوانية والسمكية في المنطقة، فيما توجه للحكومة تهم التغاضي عن ممارسات دول المنبع، بشأن حصة البلاد المائية.وكشف مرصد “العراق الأخضر”، المتخصص بشؤون البيئة، في 2 حزيران يونيو الجاري، عن وصول معدلات الملوحة في شط العرب بمحافظة البصرة، إلى نصف ملوحة مياه البحر، محذرا من عودة التسمم إلى هذه المياه بسبب الملوثات الصلبة.
يشار إلى أن أزمة المياه في البصرة، وعموم مدن العراق، ليست حديثة، بل هي ممتدة منذ فترات طويلة، نتيجة ظروف طبيعية، وأدوار توسعية تمارسها دول الجوار في خنق الممرات المائية لنهري دجلة والفرات على العراق، من جهة تركيا، ومن جهة إيران على حد سواء.وكشف وزير الموارد المائية العراقي، عون ذياب عبد الله، في 24 آيار مايو الماضي، عن اتفاق عراقي–تركي يقضي بإطلاق 500 متر مكعب في الثانية من المياه في نهر الفرات يوميا، مؤكدا سعي بلاده لتأمين حصصها المائية من تركيا وإيران لمواجهة أزمة الجفاف الخانقة، إلا أن ذلك لم يتم تطبيقه على أرض الواقع حتى الآن (وقت كتابة التقرير).
وحذر النائب عن محافظة البصرة، غسان إسحق مهودر، في 21 آيار مايو الماضي، من تصاعد خطر التمدد الملحي، وتأثيره السلبي على مصادر المياه المستخدمة يوميا من قبل المواطنين في المحافظة، مبينا أن التعامل مع هذه المشكلة ومعالجتها يتطلب زيادة إطلاقات المياه، كونها الوسيلة الوحيدة القادرة على الحد من انتشار اللسان الملحي، وحماية المحافظة من تداعياته الخطيرة.ولم يفلح العراق منذ منتصف القرن الماضي، بوضع حلول نهائية لأزمة متكررة باتت ورقة ضغط بيد دول المنبع تركيا وإيران، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال التحكم بشكل مطلق بتدفق مياه نهري دجلة والفرات.
ويبدو أن الحكومات العراقية، على مدى قرن مضى، فشلت في توقيع اتفاق ملزم مع الجارتين، يضمن حقوق بلاد ما بين النهرين بشكل دائم.وكانت الحكومة العراقية قد اضطرت إلى اتخاذ قرار بمنع زراعة المحاصيل الصيفية، بسبب محدودية الموارد المائية، وهو قرار وصف بالصعب، لكنه ضروري في ظل التحديات الحالية. كما قلّصت الحكومة مساحة الأراضي المشمولة بالخطة الزراعية الموسمية إلى النصف، وصولا إلى استبعاد بعض المحافظات من الخطة بالكامل، نتيجة موجة الجفاف غير المسبوقة التي فاقمها قطع إيران لروافد نهر دجلة.
ووفقا لتوقعات “مؤشر الإجهاد المائي” فإن العراق سيكون أرضا بلا أنهار بحلول عام 2040، ولن يصل النهران العظيمان إلى المصب النهائي في الخليج العربي، وتضيف الدراسة أنه في عام 2025 ستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جدا في عموم البلاد مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود الموارد.وأدى ارتفاع درجات الحرارة في العراق إلى انخفاض كبير في هطول الأمطار السنوي، والذي يبلغ حاليا 30 في المئة، ومن المتوقع أن يصل هذا الانخفاض إلى 65 في المئة بحلول عام 2050.
ويرى مختصون، أن العراق مقبل على كارثة بيئية اذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، وهذا سيكون بمثابة كارثة إنسانية لبلاد ما بين النهرين، وبالتالي هجرة الريف إلى المدينة في ظل عدم نجاح الحلول الحالية، فمن الأفضل للسلطات العراقية التوجه إلى إستراتيجية وطنية جديدة، تعمل على ترشيد استخدام المياه، ورسم سياسة ري جديدة للأراضي الزراعية، وتحديد حصص المحافظات، والعمل بجدية على وقف التجاوزات الموجودة في بعضها.
وسجل مربو الأسماك بناحية السيبة جنوبي البصرة، خلال العامين الماضيين نفوق كميات كبيرة من الأسماك في أكثر من 25 بحيرة، بسبب ارتفاع اللسان الملحي، فيما كشف متخصصون في حينها أن قراءة نسبة الملوحة بالأنهر المغذية للأحواض تجاوزت (18 ألف T.D.S)، وهي نسبة مميتة، ومن المستحيل أن تتم الزراعة فيها، بحسب كلامهم.كما أكد وزارة الموارد المائية، سابقا لـ”العالم الجديد”، أن السنوات الثلاث الجافة التي مرت على العراق، دفعت الوزارة للذهاب والاستعانة بالخزين الاستراتيجي، ما أدى إلى انخفاضه من 60 مليار متر مكعب في عام 2019 إلى أقل من 10 مليارات متر مكعب حاليا، وقد وصل تقريبا إلى 8 مليارات متر مكعب.
يشار إلى أن العراق فقد 70 بالمئة من حصصه المائية، بسبب سياسة دول الجوار، وأن الانخفاض الحاصل بالحصص المائية في بعض المحافظات الجنوبية عائد إلى قلة الإيرادات المائية الواردة إلى سد الموصل على دجلة وسد حديثة على الفرات من تركيا، بحسب بيان سابق لوزارة الموارد المائية أيضا.ولا تتوقف مطالبات أهالي البصرة بمعالجة مياه الصرف الصحي قبل رميها في مياه شط العرب، حيث يحاول مواطنون على منصات التواصل الاجتماعي، نشر مقاطع مصوّرة لـ “فضح” و “مناشدة” الحكومة المحلية التي تعِد بمحاسبة المقصرين الذين يتركون المياه الآسنة تشق طريقها لشط العرب، وكل ما يغذّيه من أنهار، لكن دون جدوى، كما أن الواقع يزداد سوءا يوما بعد يوم.